جدل التنوير .. شذرات فلسفية . هوركهايمر و أدورنو
جدل التنوير .. شذرات فلسفية
تأليف : ماكس هوركهايمر و ثيودور أدورنو
دار الكتاب الجديد - بيروت 2003 | 33. صفحة | 10 م . ب
يتعرض كتاب «جدل التنوير» لمؤلفيه ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر لعدد من أسئلة التنوير التي ما زالت تثير نقاشاً في الكتابات الفكرية المعاصرة، التي تسعى جاهدة لتحديد إشكالية التنوير، وسياقات تحققه، وبوجه خاص في ظل وجود عوائق تتمثل بقيم التغيير المستمر، ولاسيما في عالم اليوم.
التنوير يبدو عالقاً بحدود مقولة ثنائية العقل ونقيضه تبعاً لآراء أدورنو ورفيقه اللذين يعدان من أعلام مدرسة فرانكفورت ذات الاتجاه الذائع الصيت في نقد الممارسات التي نتجت مع الحداثة الغربية وتحولاتها، ولاسيما قبيل الحرب العالمية الثانية. الكتاب ينهض على عدد من المحاور التي يتأمل من خلالها المؤلفان جدل التنوير، ولكن ضمن عدد من وجهات النظر التي تتسم بتعالقها مع مرجعيات الفصل بين النموذج العقلاني والأسطورة، كما المساحة التي تقع بينهما في التراث الأوروبي.
في الكتاب ثمة قدر كبير من النقد لمسارات التفكير الأوروبي التي كانت مسؤولة عن القيم المشوهة التي سادت أوروبا من فاشية ونازية وماركسية ستالينية، وغيرها. إن التفكير بمنطق استعادة عوامل التنوير والنهضة، تعني مراجعة شاملة لنتاجات فكرية وحضارية، بدت الأكثر مسؤولية عن عذابات البشر نتيجة تمكن وسائل القمع والقهر اللتين مارستهما الدول بمنطقها القائم على السيطرة، التي شملت كافة القطاعات، فضلاً عن تكريسها في خدمة المصالح التي اقتصرت على فئة قليلة من البشر، وهي تشمل الحكومات والقطاعات الرأسمالية.
لقد حاول اليسار الأوروبي نقد الرأسمالية الغربية، ولكن ثمة أسئلة ما زالت عالقة بالتوازي مع تطور المجتمع نحو ما يمكن أن نعده فرضياً تقدما نحو الأمام، لكن الأمام لا يعني إلا المزيد من الجحيم الذي أفضى إلى نكوص التنوير، الذي قام في الأساس على منطق العقل في محاولة منه لنقض الأسطورة وتبديدها، غير أن هذا التنوير سرعان ما تحول إلى نمط من الأسطرة الجديدة، لتمتد أذرع التكبيل التي مارستها السلطة، سواء السياسية أو الثقافية، ما أفرز بدوره المزيد من الهيمنة على الفرد الذي تبدد وجوده ككائن إنساني، وتحديداً بعيد تطور وسائل التقنية الحديثة من إذاعة وتلفزيون وسينما، وغيرها.
وإذا كان أدورنو وهوركهايمر يقيمان نقدهما للمجتمع الغربي على أساس أن قيم الحداثة التي جلبتها التكنولوجية التي أفضت إلى أفعال من القضاء على قيم الجمال، والذوق نتيجة أفعال التشابه التي ميزت الثقافة، فإن ذلك أوقع جناية أيضاً قادتها المفردات الحديثة على الخصوصية الفردية، في حين تحول الذوق الفني الخاص إلى نموذج أحادي متشابه نتيجة الممارسات التي انتهجتها آلة الإعلام الحديث.
في كتاب هذين المفكرين، نقرأ نقداً شديد القسوة للعالم بتكوينه الجديد، وهذا يأخذنا إلى أن هذه النتائج أحدثتها قيم التنوير المعكوس حيث أفضت إلى المزيد من البؤس الإنساني، ولكنها في ضوء تقديرنا الحالي، لا تقارن بما يمكن أن نعاينه الآن في عصر المفردة الرقمية التي حولت البشر إلى نماذج لا تتميز بأحادية المنظور فحسب، إنما إلى نماذج معطوبة من حيث سهولة عقلنة الأسطورة، أو أسطرة العقل الذي تحول إلى التفكير بنسق نمطي بلا أدنى قدر من الاختلاف أو التباين. إننا إزاء أفول الإنسان الذي جعله جان بول سارتر مقدساً، غير أنه بات بلا قيمة، بل أمسى في طور الأفول، لقد تلاشى في ظلال التكنولوجيا، ووصل أوج فنائه مع المؤسسة الرقمية، أو العالم الافتراضي الذي بات فضاء متشابكاً من العقول التي تتشابه في ردود أفعالها، والتي تتناسخ تجاه ما يطرأ في عالم، بات ممسوساً بأنماط من الاستهلاك الثقافي بلا فاعلية. ولعل هذا يدفعني لاستحضار عبارة وردت في فيلمBefore Sunrise على لسان البطل – الذي يؤدي دوره الممثل إيثان هوك- حيث عبر عن كرهه المقيت للتكنولوجيا كما سخر من فائض وقت الفراغ الذي نتج بفعل التطور التقني، ومع ذلك، فالإنسان لم يعد يستمتع بهذا الفائض من الزمن نتيجة انشغاله بالعمل لتلبية الحاجات الاستهلاكية.
ثمة في الكتاب الذي وضع في الأربعينيات منهج للبحث والمساءلة، ولكن عبر شذرات يبثها المؤلفان في مصنفهما الذي يقيم تبصّرات معمقة للعديد من المستويات التي يجمعها مركز واحد نعني التنوير. هذه المفردة التي انفلتت من تحديدها الاصطلاحي والمعرفي لتتحول إلى كونها ممارسة مشوّهة نتيجة المرجعيات التي صاغتها بمعزل عن جوهرانيتها المطلقة، فالخوف الذي هيمن على الوجود البشري عاد مرة أخرى، ولكن عبر تصور آخر، فقد أضحى الخوف نتاج الإنسان الذي قام بأسطرة كل ما يحيط به، ولا سيما العقل الذي تجاوز الحدود إلى مجالات لا تدرك. لقد انحرفت الثقافة في ألمانيا، ولاسيما في الأربعينيات عن مسارها الطبيعي تبعاً لتطور القيم الصناعية التي أغرقت في الاستهلاك والتنميط، كما أغرقت في نمذجة الآخر، والممارسات العنصرية، وهنا نقرأ وعياً بالنموذج اليهودي الذي تعرض لانتهاك تعبيري واصطلاحي على يد الثقافة الغربية التي عملت على تخليق نموذج مشخصن لليهودي، وهذا ما يدفع إلى تحليل الممارسة الأوروبية مع اليهود من زاوية معاداة السامية، ولكن هذا أنتج معاداة أخرى في عالم اليوم، خاصة تجاه المسلم واللاتيني والملون، أو المختلف عامة عن النموذج الأبيض.
إن الإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام أدوات لتكوين أنماط من الثقافة، فالصناعة حولت مفاهيم كانت لزمن قريب تعدّ مثالية، ومنها مفهوم العائلة والحب والجنس… فالجمال – على سبيل المثال- في التكوين العقلي سلب على أيدي المتنورين الذين حاولوا نبذ القيم المعنوية والحسية إلى شيء مُعقلن، أو بلا روح، وهذا نموذج على أسطرة العقل، وما أحدثه من تخريب للقيم الجمالية، ولاسيما البسيطة منها، أو المبسطة.
إن الرأسمالية كما يقول مؤلفا الكتاب، مارست هدماً من خلال العبور إلى ما هو مصطنع، كما المشاعر التي انتبذت مكاناً قصيا في التعبيرات الجديدة، حيث لم تعد التلقائية نموذجا محبذا، فالتخطيط يعدّ مطلباً لتحقيق النجاح في مفاهيم الزمن المعاصر الذي بات يقدّر قيم المظاهر، واستثمار الفاعلية الإعلامية، فكل ما ينتج ثقافيا ما هو إلا محض تدبير مسبق، نتاج مدروس، أو أداء آلي ينبذ التلقائية الواجبة، أو التمثيل الحقيقي، وهذا ما يمكن أن نسقطه إسقاطا زمنيا على اللعبة الإعلامية في العصر الحديث، التي تمارس تدوير العقل نحو وجهات محددة، أو مدروسة بعناية. لقد تم استهلاك المتلقي ضمن توجيهات لصالح تحقيق القدر الأكبر من المال، ولنتأمل البرامج التلفزيونية المعاصرة التي توضع من قبل منفذين ومنتجين قادرين على خلق ما يقنع المشاهد بأنه أمام فعل تعبيري إنساني حقيقي، ومن ذلك قضية كبرى كقضية فلسطين حيث تحولت إلى نموذج للتكسب، وتحقيق أكبر قدر من المشاهدة عبر استهلاك الذوات الإنسانية المعذبة، واستغلال تعلقها بفنان ما آتياً من جحيم الفناء.
إننا إزاء عالم مصنع بالكامل، ليس ثمة مجال للخطأ أو الارتجال، ربما هذا درس يمكن أن نتعلمه من كتاب جدل التنوير الذي يمضي في شذراته الفلسفية، وأبرزها مقولة الكتاب حول كيفية إنتاج الثقافة التي فقدت قيم المعاني… حيث يذكر «بأن الحضارة الآلية أعطت للجميع مسحة من المشابهة؛ وقد صارت السينما (الفيلم) والراديو والمجلات نظاما قائما بذاته. كما أن كل قطاع من القطاعات أصبح قائما على الإعلام». في هذا السياق ينبغي أن نتأمل كيفية تطبيق هذه المقولة على إنتاج الثقافة في عالمنا اليوم، فعلى الرغم من الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت نظاما قائما بذاته، إذ يمكن له أن يعمل بمعزل عن أي أنظمة أخرى، ومع هذا فسنجد أنها تنتج ردود فعل تكاد تتشابه بين كافة المتلقين، فردود فعل البشر على حدث ما، يكاد يتشابه في معظم أنحاء العالم. إن انشغال البشر في التعليق على حدث ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعني أن ثمة قدرة على تحويل وجهات النظر، أو الرأي العام نحو قضية ربما لا تحتاج هذا الكم الهائل من الاستهلاك، فالإعلام بدأ يستفيد من ترسانة وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على تجييش الخطابات المتكررة نحو منتتج ثقافي كالرواية – على سبيل المثال- التي أضحت شاغلة المثقفين والقراء، على الرغم من أن القيمة الفنية في تراجع، وهذا يتضح من خلال ضآلة طرحها الفكري والإنساني، غير أنها أمست مع ذلك نتيجة الإعلام- ولاسيما بعض الأعمال والأسماء – نموذجاً لمتعالية خطابية أو بوصفها أعمالاً عظيمة، أو خالدة، في حين أنها حقيقة لم ترق إلى هذا المستوى، لقد أفضى هذا إلى نتاج ضعيف ونماذج مستنسخة من الكتابة السردية التي فاضت إلى حد أنها أصبحت ظاهرة غير صحية، علاوة على أنها وقعت في المتماثل الذي حذر منه مؤلفا الكتاب، خاصة في تحليل ظواهر النتاج الثقافي.
إن أصدق توصيف على تدني الفعل الثقافي ما وصفه الكتاب من أن: «الأعمال الفنية في متناول الجميع تماما كالحدائق العامة. هذا لا يعني أنها حين تضع سماتها الأصلية ستكون مدمجة في المجتمع الحر، ومحفوظة كأعمال فنية، بل على العكس، إن دفاعها الأخير ضد الانهيار سقط بدوره أيضا. إن إلغاء ثقافة ما كثقافة مميزة لا يعني إدخال الجمهور إلى دائرة يعتقد أنه قد حرم منها سابقاً، بل يعني في ظل الظروف الاجتماعية الحالية انحطاط الثقافة، ويعني أيضا عدم الانسجام في العقول». وهكذا تبدو هذه التوصيفات صادقة على النتاج أو المشهد الثقافي، خاصة في ظل تمكن الجمهور من الولوج إلى الثقافة، ولكن من منطلق المستهلك. لقد أفضى هذا النهج إلى تسطيح الثقافة وانهيارها؛ ولهذا لم تعد النتاجات الثقافية ترتقي إلى المستوى المطلوب، فالجماهير أصبحت تمارس الثقافة بوصفها مشاعاً، وهذا ينطبق على من يقومون بإنتاج الثقافة في ظل سيطرة الإعلام الذي يوظف أسلوب التكرار لتكريس نماذج مخصصة، وبهذا تتحول اللغة شيئا فشيئا إلى نموذج تواصلي لا نموذجا فكريا حاملا لمنظومة حضارية، وبذلك فقد تم فصل الكلمة عن مضمونها حسب تعبير أدورنو وهوركهايمر.
في الكتاب ثمة قدر كبير من النقد لمسارات التفكير الأوروبي التي كانت مسؤولة عن القيم المشوهة التي سادت أوروبا من فاشية ونازية وماركسية ستالينية، وغيرها. إن التفكير بمنطق استعادة عوامل التنوير والنهضة، تعني مراجعة شاملة لنتاجات فكرية وحضارية، بدت الأكثر مسؤولية عن عذابات البشر نتيجة تمكن وسائل القمع والقهر اللتين مارستهما الدول بمنطقها القائم على السيطرة، التي شملت كافة القطاعات، فضلاً عن تكريسها في خدمة المصالح التي اقتصرت على فئة قليلة من البشر، وهي تشمل الحكومات والقطاعات الرأسمالية.
لقد حاول اليسار الأوروبي نقد الرأسمالية الغربية، ولكن ثمة أسئلة ما زالت عالقة بالتوازي مع تطور المجتمع نحو ما يمكن أن نعده فرضياً تقدما نحو الأمام، لكن الأمام لا يعني إلا المزيد من الجحيم الذي أفضى إلى نكوص التنوير، الذي قام في الأساس على منطق العقل في محاولة منه لنقض الأسطورة وتبديدها، غير أن هذا التنوير سرعان ما تحول إلى نمط من الأسطرة الجديدة، لتمتد أذرع التكبيل التي مارستها السلطة، سواء السياسية أو الثقافية، ما أفرز بدوره المزيد من الهيمنة على الفرد الذي تبدد وجوده ككائن إنساني، وتحديداً بعيد تطور وسائل التقنية الحديثة من إذاعة وتلفزيون وسينما، وغيرها.
وإذا كان أدورنو وهوركهايمر يقيمان نقدهما للمجتمع الغربي على أساس أن قيم الحداثة التي جلبتها التكنولوجية التي أفضت إلى أفعال من القضاء على قيم الجمال، والذوق نتيجة أفعال التشابه التي ميزت الثقافة، فإن ذلك أوقع جناية أيضاً قادتها المفردات الحديثة على الخصوصية الفردية، في حين تحول الذوق الفني الخاص إلى نموذج أحادي متشابه نتيجة الممارسات التي انتهجتها آلة الإعلام الحديث.
في كتاب هذين المفكرين، نقرأ نقداً شديد القسوة للعالم بتكوينه الجديد، وهذا يأخذنا إلى أن هذه النتائج أحدثتها قيم التنوير المعكوس حيث أفضت إلى المزيد من البؤس الإنساني، ولكنها في ضوء تقديرنا الحالي، لا تقارن بما يمكن أن نعاينه الآن في عصر المفردة الرقمية التي حولت البشر إلى نماذج لا تتميز بأحادية المنظور فحسب، إنما إلى نماذج معطوبة من حيث سهولة عقلنة الأسطورة، أو أسطرة العقل الذي تحول إلى التفكير بنسق نمطي بلا أدنى قدر من الاختلاف أو التباين. إننا إزاء أفول الإنسان الذي جعله جان بول سارتر مقدساً، غير أنه بات بلا قيمة، بل أمسى في طور الأفول، لقد تلاشى في ظلال التكنولوجيا، ووصل أوج فنائه مع المؤسسة الرقمية، أو العالم الافتراضي الذي بات فضاء متشابكاً من العقول التي تتشابه في ردود أفعالها، والتي تتناسخ تجاه ما يطرأ في عالم، بات ممسوساً بأنماط من الاستهلاك الثقافي بلا فاعلية. ولعل هذا يدفعني لاستحضار عبارة وردت في فيلمBefore Sunrise على لسان البطل – الذي يؤدي دوره الممثل إيثان هوك- حيث عبر عن كرهه المقيت للتكنولوجيا كما سخر من فائض وقت الفراغ الذي نتج بفعل التطور التقني، ومع ذلك، فالإنسان لم يعد يستمتع بهذا الفائض من الزمن نتيجة انشغاله بالعمل لتلبية الحاجات الاستهلاكية.
ثمة في الكتاب الذي وضع في الأربعينيات منهج للبحث والمساءلة، ولكن عبر شذرات يبثها المؤلفان في مصنفهما الذي يقيم تبصّرات معمقة للعديد من المستويات التي يجمعها مركز واحد نعني التنوير. هذه المفردة التي انفلتت من تحديدها الاصطلاحي والمعرفي لتتحول إلى كونها ممارسة مشوّهة نتيجة المرجعيات التي صاغتها بمعزل عن جوهرانيتها المطلقة، فالخوف الذي هيمن على الوجود البشري عاد مرة أخرى، ولكن عبر تصور آخر، فقد أضحى الخوف نتاج الإنسان الذي قام بأسطرة كل ما يحيط به، ولا سيما العقل الذي تجاوز الحدود إلى مجالات لا تدرك. لقد انحرفت الثقافة في ألمانيا، ولاسيما في الأربعينيات عن مسارها الطبيعي تبعاً لتطور القيم الصناعية التي أغرقت في الاستهلاك والتنميط، كما أغرقت في نمذجة الآخر، والممارسات العنصرية، وهنا نقرأ وعياً بالنموذج اليهودي الذي تعرض لانتهاك تعبيري واصطلاحي على يد الثقافة الغربية التي عملت على تخليق نموذج مشخصن لليهودي، وهذا ما يدفع إلى تحليل الممارسة الأوروبية مع اليهود من زاوية معاداة السامية، ولكن هذا أنتج معاداة أخرى في عالم اليوم، خاصة تجاه المسلم واللاتيني والملون، أو المختلف عامة عن النموذج الأبيض.
إن الإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام أدوات لتكوين أنماط من الثقافة، فالصناعة حولت مفاهيم كانت لزمن قريب تعدّ مثالية، ومنها مفهوم العائلة والحب والجنس… فالجمال – على سبيل المثال- في التكوين العقلي سلب على أيدي المتنورين الذين حاولوا نبذ القيم المعنوية والحسية إلى شيء مُعقلن، أو بلا روح، وهذا نموذج على أسطرة العقل، وما أحدثه من تخريب للقيم الجمالية، ولاسيما البسيطة منها، أو المبسطة.
إن الرأسمالية كما يقول مؤلفا الكتاب، مارست هدماً من خلال العبور إلى ما هو مصطنع، كما المشاعر التي انتبذت مكاناً قصيا في التعبيرات الجديدة، حيث لم تعد التلقائية نموذجا محبذا، فالتخطيط يعدّ مطلباً لتحقيق النجاح في مفاهيم الزمن المعاصر الذي بات يقدّر قيم المظاهر، واستثمار الفاعلية الإعلامية، فكل ما ينتج ثقافيا ما هو إلا محض تدبير مسبق، نتاج مدروس، أو أداء آلي ينبذ التلقائية الواجبة، أو التمثيل الحقيقي، وهذا ما يمكن أن نسقطه إسقاطا زمنيا على اللعبة الإعلامية في العصر الحديث، التي تمارس تدوير العقل نحو وجهات محددة، أو مدروسة بعناية. لقد تم استهلاك المتلقي ضمن توجيهات لصالح تحقيق القدر الأكبر من المال، ولنتأمل البرامج التلفزيونية المعاصرة التي توضع من قبل منفذين ومنتجين قادرين على خلق ما يقنع المشاهد بأنه أمام فعل تعبيري إنساني حقيقي، ومن ذلك قضية كبرى كقضية فلسطين حيث تحولت إلى نموذج للتكسب، وتحقيق أكبر قدر من المشاهدة عبر استهلاك الذوات الإنسانية المعذبة، واستغلال تعلقها بفنان ما آتياً من جحيم الفناء.
إننا إزاء عالم مصنع بالكامل، ليس ثمة مجال للخطأ أو الارتجال، ربما هذا درس يمكن أن نتعلمه من كتاب جدل التنوير الذي يمضي في شذراته الفلسفية، وأبرزها مقولة الكتاب حول كيفية إنتاج الثقافة التي فقدت قيم المعاني… حيث يذكر «بأن الحضارة الآلية أعطت للجميع مسحة من المشابهة؛ وقد صارت السينما (الفيلم) والراديو والمجلات نظاما قائما بذاته. كما أن كل قطاع من القطاعات أصبح قائما على الإعلام». في هذا السياق ينبغي أن نتأمل كيفية تطبيق هذه المقولة على إنتاج الثقافة في عالمنا اليوم، فعلى الرغم من الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت نظاما قائما بذاته، إذ يمكن له أن يعمل بمعزل عن أي أنظمة أخرى، ومع هذا فسنجد أنها تنتج ردود فعل تكاد تتشابه بين كافة المتلقين، فردود فعل البشر على حدث ما، يكاد يتشابه في معظم أنحاء العالم. إن انشغال البشر في التعليق على حدث ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعني أن ثمة قدرة على تحويل وجهات النظر، أو الرأي العام نحو قضية ربما لا تحتاج هذا الكم الهائل من الاستهلاك، فالإعلام بدأ يستفيد من ترسانة وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على تجييش الخطابات المتكررة نحو منتتج ثقافي كالرواية – على سبيل المثال- التي أضحت شاغلة المثقفين والقراء، على الرغم من أن القيمة الفنية في تراجع، وهذا يتضح من خلال ضآلة طرحها الفكري والإنساني، غير أنها أمست مع ذلك نتيجة الإعلام- ولاسيما بعض الأعمال والأسماء – نموذجاً لمتعالية خطابية أو بوصفها أعمالاً عظيمة، أو خالدة، في حين أنها حقيقة لم ترق إلى هذا المستوى، لقد أفضى هذا إلى نتاج ضعيف ونماذج مستنسخة من الكتابة السردية التي فاضت إلى حد أنها أصبحت ظاهرة غير صحية، علاوة على أنها وقعت في المتماثل الذي حذر منه مؤلفا الكتاب، خاصة في تحليل ظواهر النتاج الثقافي.
إن أصدق توصيف على تدني الفعل الثقافي ما وصفه الكتاب من أن: «الأعمال الفنية في متناول الجميع تماما كالحدائق العامة. هذا لا يعني أنها حين تضع سماتها الأصلية ستكون مدمجة في المجتمع الحر، ومحفوظة كأعمال فنية، بل على العكس، إن دفاعها الأخير ضد الانهيار سقط بدوره أيضا. إن إلغاء ثقافة ما كثقافة مميزة لا يعني إدخال الجمهور إلى دائرة يعتقد أنه قد حرم منها سابقاً، بل يعني في ظل الظروف الاجتماعية الحالية انحطاط الثقافة، ويعني أيضا عدم الانسجام في العقول». وهكذا تبدو هذه التوصيفات صادقة على النتاج أو المشهد الثقافي، خاصة في ظل تمكن الجمهور من الولوج إلى الثقافة، ولكن من منطلق المستهلك. لقد أفضى هذا النهج إلى تسطيح الثقافة وانهيارها؛ ولهذا لم تعد النتاجات الثقافية ترتقي إلى المستوى المطلوب، فالجماهير أصبحت تمارس الثقافة بوصفها مشاعاً، وهذا ينطبق على من يقومون بإنتاج الثقافة في ظل سيطرة الإعلام الذي يوظف أسلوب التكرار لتكريس نماذج مخصصة، وبهذا تتحول اللغة شيئا فشيئا إلى نموذج تواصلي لا نموذجا فكريا حاملا لمنظومة حضارية، وبذلك فقد تم فصل الكلمة عن مضمونها حسب تعبير أدورنو وهوركهايمر.
تعليقات
إرسال تعليق