أبراج بابل . جاك دريدا
أبراج بابل
جاك دريدا
دار الحوار - اللاذقية 2015 | 244 م . ب | 4.66 م . ب
تعتبر الترجمة الجسر الذي يمكّن الشعوب من التقارب، إذ تلعب دورا بارزا في نقل الأفكار والآراء والثقافات. وقد تسابقت الحضارات في نقل ما وصل إليه الآخرون في شتى المجالات عن طريق ترجمة الكتب في جميع الميادين، وللترجمة الفضل في تواصل اللغة على أساس أنها تستوجب مصطلحات جديدة وصيغا مبتكرة وكلمات مستحدثة، فهي تساهم بدرجة كبيرة في إثراء اللغات، والحفاظ عليها على أساس أن اللغة كائن حيّ يولد وينمو ويموت.
فيقتفي دريدا أثر الترجمة وفلسفتها وفقه الكلمة وأبعادها الدلالية، وكيف تنفتح على عوالم بذاتها، سواء كانت على صعيد اسم علم أو على صعيد المعاني التي ترمز إليها، ويقارب طروحات عدد من المفكرين إزاء الترجمة، تلك التي تكون ضمن اللغة نفسها أو من لغة أخرى، ويكون في انفتاح الدلالة على فضاءات بعينها إضفاء للسحر والغموض على الاسم وما وراءه، أو ما يستبطنه ويرمز إليه.
يبحر دريدا في سبر أغوار الترجمة، ويقارب الأوصاف التي تنسب إليها أو تلصق بها، كالخيانة أو الحرية أو الإبداع أو التأويل، ويتحدث عن أفعال موازية لها، وأخلاقيات أو قيم مصاحبة أو منتزعة، ويتساءل كيف نترجم نصا مكتوبا بعدة لغات في الوقت نفسه؟ كيف نتمكن من نقل تأثير التعددية؟ وإذا ترجمنا بعدة لغات في الوقت نفسه، هل يمكن اعتبار ذلك ترجمة؟
لا يعنى دريدا كثيرا بتفكيك ما ورد في الكتاب المقدس عن قصة بابل، التي تقول إن الناس في مدينة بابل شرعوا في بناء برج ليصل بهم إلى السماء تحديا. وما ساعدهم على ذلك استخدامهم للغة واحدة سمحت لهم بالتواصل الجيد مع بعضهم والاستمرار في بناء البرج، ولكن المشيئة الإلهية وضعت حدا لهذا البرج، وغرور أصحابه، من خلال خلط لغتهم المشتركة. وعندئذ أدى سوء الفهم إلى اختلافهم وتوقف العمل بالبرج، وتشتت الناس وتفرقوا جماعات، وتداعى برج بابل.
الوضوح والغموض
يلفت دريدا في كتابه “أبراج بابل” من ترجمة صبحي دقوري، وتقديم إبراهيم محمود، والصادر عن دار الحوار بسوريا، إلى جانب ملتبس في بابل، حيث الوضوح تارة، والغموض والتداخل تارة أخرى، ويجد أن التعاطي يكون مع بابل كاسم علم من جهة، ويكون أحيانا اسما لنص سردي وهو يقص حكاية ما، حكاية ينبري فيها اسم العلم، حيث لم يعد عنوانا لها يسمي برجا أو مدينة، يكون برجا أو مدينة يلتقي اسماهما من خلال حدث أعلن يهوه عبره عن اسمه.
في القسم الأول يقدم الباحث إبراهيم محمود للكتاب بطريقة بناء نص على آخر، محاولا الابتعاد عن جانب الوصاية في التقديم، وساعيا إلى الإضاءة على أفكار ومصطلحات “دريدية”، ومن عناوين القسم: بين بابل الإله وألسنة البشر، نتذكر ما ليس يُنسى، في حضرة “بابلياذا”، أبعد من بابل بالذات، الوضع المتأزم؛ أهو متأزم؟ ما يعدنا به الانفجار الصادم، الترجمة على الخط، جاك دريدا وترجمة البلبلة، جاك دريدا في إهاب الترجمة المبلبِلة، وقفة مع دريدا ونصه “أبراج بابل”.
يلفت دريدا إلى أن اسم العلم هذا الذي يسمي ثلاث مرات ثلاثة أشياء مختلفة، ينطوي بدوره أيضا كاسم علم، على عمل الاسم المعتاد، وتختصر الحكاية عموما، وتروي من بين أشياء أخرى، أصل بلبلة الألسنة، وتعددية اللغات المحلية وتلك المهمة الضرورية وتلك المستحيلة للترجمة، ويرى أننا لا نعير هذا الأمر اهتماما، على اعتبار التعرف إلى الحكاية ضمن الترجمة بالذات. ويجد أن اسم العلم يحافظ على منحى مميز في الترجمة لأنه لا يترجم عند ظهوره كاسم علم، إنه يبقى غير قابل للترجمة بوصفه هكذا دائما.
ينطلق دريدا من إمكانية اعتبار الاسم لا ينتمي بنفس الصفة التي في الكلمات الأخرى، إلى اللغة وإلى نظام اللغة سواء كانت مترجِمة أو مُترجَمة. ويشير إلى إمكانية اعتبار بابل حدثا ضمن لغة واحدة، يظهر فيها استجابة لتشكيل نص محدد له، ويشير كذلك إلى إمكانية أن تفهم لفظة بابل هذه في إحدى اللغات بمعنى البلبلة، ويجد أنه استنادا إلى ذلك، ولأن بابل ستغدو اسم علم واسم جنس، تصبح البلبلة بدورها اسم علم واسم جنس، وذلك بوجود رابطة تناغم ومرادفة بينهما، وليست رابطة تطابق لكون الوضع بعيدا عن الخلط بين قيمهما.
يعتقد أنه حين تهجّي مفردة بابل يكون هناك شعور باستحالة التقرير إذا كان هذا الاسم ينتمي بشكل خاص وبسيط إلى لغة معينة. ويعتبر أن هذه اللاتقريرية تقوم بتأجيج الصراع من أجل اسم العلم داخل مشهد المديونية السلالية. ويشير إلى أن الساميين وهم يحاولون أن يهبوا اسما لهم، ويقوموا بتأسيس لغة كونية وانتساب واحد في الوقت نفسه، أرادوا أن يخضعوا العالم لمنطقهم. ويجد أن هذا المنطق يمكن أن يعني في آن واحد عنفا استعماريا وشفافية سلمية بالنسبة إلى الجماعة الإنسانية.
قانون الترجمة
يتناول دريدا الموضوع من زاوية أخرى حين يعكس الافتراض، وأنه عندما فرض الإله اسمه عليهم وأقره كذلك، أعاق الشفافية العقلانية، ولكنه أوقف أيضا العنف الاستعماري أو الإمبريالية اللسانية، إذ أنه وجههم صوب الترجمة وطوعهم لقانون الترجمة الضرورية والمستحيلة، وانطلاقا من اسمه الخاص القابل للترجمة وغير القابل لها في آن معا فهو سيحرر ما لا يخضع لهيمنة أيّ أمة محددة. ويعتقد أن الترجمة تصبح هي القانون، الواجب، والدَّيْن، ولكنه الدّين الذي يمكن سداده.
يحضر توصيف الترجمة على أنها تكون مثل التماس، هذا لا يلمس الدائرة إلا عرضيا وفي نقطة واحدة، إذ أن هذا التماس لا النقطة، هو الذي يحدد السير على خط مستقيم للقانون الذي بموجبه يستمر إلى ما لا نهاية. ويجد كذلك أن الترجمة هذه تمس الأصل بطريقة عابرة وفي نقطة معنى تكون لا متناهية الصغر، وذلك لاتباع خط سيرها الخاص تبعا لقانون الأمانة ضمن الحركة اللغوية.
يعتقد دريدا أن مهمة المترجم شاقة وشائقة في الوقت نفسه، وإن ما لا يُستطاع مسّه في عمله ولا يُستطاع الإحساس به، وما لا يُستطاع لمسه، هو الذي يسحر ويوجد عمل المترجم، إذ أنه هو الذي يريد لمس ما لا يُستطاع لمسه، أي ما يَفيض عن النص عندما يتمّ تبليغ ما لا يُستطاع تبليغه أو تعليمه.
يذكر دريدا أن ما لا يكفّ عن السيطرة هو الدين والمهمة والتعيين كنداء للترجمة، حيث ثمة ما يقبل الترجمة باستمرار، سوى أنه جراء عدم التمييز بين المعنى والحرفية، يكون غير القابل للترجمة بصورة محضة، في وارد الإعلان عن ذاته، ويعطي ويعرض في أن يترجَم لأنه لم يترجَم. ويعتقد أنه بدءا من هذا الحدّ الداخلي والخارجي، يتلقى المترجم عموم إشارات الابتعاد التي تقوده في مساره الذي لا ينتهي على حرف الهوة والجنون والصمت.
جدير بالذكر أن محاضرة دريدا تمضي في نسق مترابط بحيث يكاد يتسبب تحليل فكرة أو مقطع منها في نوع من التقطيع، لذا تأتي القراءة بنوع من الانتقائية معها، لنقل جوانب من اشتغاله في بحثه، والإضاءة على زوايا من أفكاره وطروحاته في قضية الترجمة وأبعادها وفقهها وفلسفتها.
تعليقات
إرسال تعليق